الأحد، 29 أبريل 2007

حكاية مدرسة أكرهها وصديق ساعدني على تحملها


الانتقال من المدرسة الابتدائية إلى المتوسطة كان صعباً
في المدرسة الابتدائية كانت البيئة مختلفة كثيراً
كانت مدرسة تتكون من طلاب ومدرسين
المتوسطة كانت مجرمين وسجانين
الفصول في المتوسطة كانت مكتظة بالطلاب
الطلاب كانوا خليطاً من أسوأ ما يمكن تسميته بالعرابجة
المدرسين كانوا يحملون العصي الغليظة أينما ذهبوا ويقودون بعصيهم الطلاب
بل يتلفظون عليهم بكلمات قاسية وأحياناً نابية تستغرب كيف تخرج من فم مربي
كانت صدمة لي
لم أتعود على هذه الأجواء في مدرستي السابقة حيث كان معظم من في المدرسة أولاد مرتبين ومؤدبين لا تسمع لهم صوتاً
وحيث كنا نقدر معلمينا ونجلهم ويبادلوننا حباً بحب واحتراماً باحترام
في الصف الذي قادوني إليه أجلسوني بجانب ولد شرس الملامح
نفرت منه منذ البداية وهو أيضاً لم يكن متقبلاً لوجودي بجانبه
كان أكبر مني وفهمت أنه عايد السنة لرسوبه في مادة واحدة
وكان ساخطاً على المدرس الذي رسب في مادته وفي كل مرة يراه يتمتم بعبارات سب أول مرة اسمعها في حياتي
كان من المدينة المنورة ويسخر دائماً من أهالي الوسطى ودائم الانتقاد لهم
لذا لم يكن يحظى بقبول في الصف
كان اسمه سلمان
زملائي الذين جاؤوا معي من مدرستي السابقة ذابوا وسط هذه المدرسة
بعضهم تأقلم سريعا مع جو المدرسة الجديدة وبعضهم لم اعد أراه
في الأيام الأولى لي في المتوسطة كنت احمل كتبي ودفاتري في شنطة لكنني اكتشفت أنني الوحيد الذي يفعل
كل الطلاب الآخرين يربطون كتبهم بربطة أو يلفونها بسجادة
حتى أني سمعت تعليق ساخر بأنني أبدوا كرجل أعمال رايح اعقد صفقة
لذا تخليت عن الشنطة واستبدلتها بربطة عادية
حاولت أن أتجاهل كل ما حولي وانتبه لدروسي
كنت مجتهداً دائماً في دروسي ولكن لم أكن متميزاً لأني كنت محاطاً بالمجتهدين
لكن هنا أصبح اجتهادي بارزاً
وقد لفت ذلك انتباه سلمان وارتاح إليه لأنه اعتبرني معيناً له في الواجبات والامتحانات
أنا طبعاً لم أمانع وكنت أعطيه دفاتري لينقل منها وأحياناً أدله على طرق أخرى لحل الواجبات لكنه كان يصر على النقل مني
وفي الامتحانات كان يطلب مني أن ارفع ورقتي ليراها لكنني لم أكن افعل
فقط اكتفيت بالسماح له بالنظر لورقتي وهو وشطارته
كنت أعود من المدرسة للبيت سيراً على الأقدام
لم يكن بيتنا بعيداً عن المدرسة فقط ربع ساعة أو عشر دقائق مشي
في طريق العودة كنت دائماً أرى سلمان أيضاً عائد للبيت
اكتشفت أنه يسكن في الحارة المجاورة لنا
كنت أراه يمشي عائداً للبيت فامشي ولا اكلمه كأنني لا اعرفه, وهو أيضاً لا يكلمني كأنه لا يعرفني
كأن معرفتنا فقط هي داخل أسوار المدرسة فقط
حتى جاء ذلك اليوم
كنا عائدين للبيت هو في طريقة وأنا في طريقي حتى شاهدت مجموعة من الأولاد (الأوغاد بالأحرى) يضربون ولداً صغيراً أجنبياً (غير سعودي)
كانوا أربعه تقريباً بعضهم شارك بالضرب وبعضهم كان يتفرج
لم يكن ضرب فقط بل كان تكفيخ وترفيس
والولد يحاول يصدهم عنه ويصرخ في وجوههم لكن الكثرة تغلب الشجاعة
لقيت سلمان متوجه لهم مباشرة وبدون ما يتكلم رفع الولد اللي كان طايح على الأرض وجمع كتبه المبعثرة وعطاها له ومسكه بيده ومشى معه مبتعداً عن الأولاد اللي كانوا يضربونه
والأولاد كانوا يراقبون بدون ما حد يسوي شيء
أنا شدني الموقف بصراحة واعتقدت انه سلمان يعرف الولد المضروب على الأقل
كان على الأرض في مكان الحادث دفتر من دفاتر ذاك الولد نساه سلمان حين جمع إغراض الولد على عجل ليبعده عن أولائك الأولاد
التقطت الدفتر ولحقت بـسلمان ومشيت جواره دون كلام
كان يسأل الولد عن اسمه عرفت عندها انه لا يعرفه مسبقاً وتدخل فقط بدافع إنساني
مشيت معهما دون كلام حتى ابتعدنا عن مكان أولائك الأولاد ثم تركنا الولد يذهب إلى منزله
سألت سلمان : ليش سويت كذا
قالي بابتسامه ساخرة: حرام يا شيخ شفت إيش سوو فيه هذولي اللبش
قلت له: كان ممكن أنت تتورط معهم في المضاربة وممكن تتأذى
لم يرد
ومشى في طريقة ولحقته مشيت معه
في ذلك اليوم فقط كشفت الوجه الذي لم أكن أراه في سلمان
منذ ذلك اليوم أصبحت امشي معه طوال طريق العودة للبيت وندردش بالطريق
تعرفت عليه أكثر
اكتشفت فيه شخصاً رائعاً وذواقاً غير الذي يبدو عليه أمام الجميع
كان يحب الأغاني خاصة الطربية فتعرفت من خلاله على أغاني أم كلثوم وشاديه ووردة الجزائرية وسواهم
ويعشق الأفلام المصرية خاصة أفلام أحمد زكي
وحين أقول له أنني اعشق الكرتون يسخر مني
كان يحلو له دائماً الحديث في السياسة التي لم أكن افهم فيها ذلك الوقت
وكان دائم الحديث عن الاختلاف بين البيئة في الحجاز ونجد
كنت دائما أدخل معه في نقاش حول ذلك وكان النقاش لا ينتهي
كان أكبر مني بعام واحد فقط لكنه بدا لي أكبر بسنوات عديدة بسبب ما يعرفه
وقد ساعدني كثيراً في التغلب على كرهي لهذه المدرسة
كنت اجهل معاني بعض الكلمات التي يتداولها الأولاد في المدرسة بل ربما كنت أردد بعضها بسذاجة دون فهم معانيها
فكان يبين لي معناها ويحذرني أحياناً من بعض الأولاد أو الذهاب إلى بعض الأماكن المنزوية المشبوهة في المدرسة حيث يحلو للأولاد المنحرفين تدخين السجائر وغيرها بعيداً عن رقابة المدرسين
أصبحت أذاكر مع سلمان وأساعده في بعض المواد التي كان يشكوا منها
وأحياناً اغششه
كان عصبي المزاج ويسهل استفزازه لكنه يحرص أن لا يبدو عليه ذلك فكان يرد بكلام هادئ جارح كالقنبلة تنفجر في وجه الخصم وكان يعجبني في ذلك
أحياناً كنت أتعمد استفزازه كي أوصله لهذه المرحلة فكان يضحك ضحكة عصبية ولا يرد
دامت رفقتنا سوياً طوال مرحلة الدراسة المتوسطة وانتقلنا سوياً إلى المدرسة الثانوية
هناك كانت الأوضاع أفضل بكثير فقد كانت مدرسة حقيقية وليست إصلاحية
فدرس معي عامين آخرين
في صيف عام 1993هـ توفي سلمان في حادث سيارة

الأربعاء، 25 أبريل 2007

حكاية مدرس يحبه طلابه

في السنة الثانية من المرحلة الابتدائية كان الأستاذ حمد يدرسنا جميع المواد
كان من أفضل المدرسين في المدرسة رغم أنه شاب حديث العهد بالتدريس
لكن كان له أسلوبا مميزاً في التدريس يجمع فيه ما بين التعليم واللعب
كان يجعلنا نقرأ قراءة جماعية وننشد وينشد معنا
وفي بعض الحصص كان يخرجنا إلى ساحة المدرسة لنأخذ الدرس هناك
وفي حصص العلوم كنا نجري التجارب في المختبر أحياناً أو في ساحة المدرسة
مازلت اذكر المنشور الزجاجي الذي نعرضه للشمس ليخرج منه ألوان قوس قزح
أو حين أشعلنا النار بواسطة عدسة مكبرة
أو المروحة ذات الأوان السبعة التي تصبح بيضاء
أو تلك البذور التي زرعناها في القطن وتركناها عند نافذة الصف
كان التدريس متعه لنا وله أيضاً
كثيراً ما اشعر أنه طفل مثلنا وتمنيت أن أصبح مدرساً مثله حين اكبر
في احد الأيام اتفق بعض الأولاد بالصف على عمل مقلب أنا ضحيته
كان الوقت ما بين الحصص ونحن بانتظار الأستاذ حمد
حين ناداني احد الأولاد من خارج الصف لأخرج إليه فخرجت ثم أغلق الطلاب الباب دوني وتركوني في الخارج
وكان الأستاذ قادماً فخجلت منه أن يراني خارج الصف لأنه عادة يوبخ الأولاد الذين يخرجون من صفوفهم
تقدم مني ووضع يده على كتفي ودخلنا الصف سويا وأنا مطرق الرأس ووجدته يوبخ الطلاب على هذا المقلب

وطلب منهم عدم تكراره مع احد
كنت سعيداً أنه فهم مقلبهم ولم يوبخني أنا أو ينظر لي نظرة تأنيب
في احد الأيام غاب الأستاذ حمد ولم يحضر إلى المدرسة وبقينا طوال اليوم بانتظاره دون اخذ دروس
وتكرر ذلك أيضاً في اليوم التالي
وفي اليوم الذي يليه أيضاً لم يحضر لذا قرر وكيل المدرسة أن يضم طلاب فصلنا مع طلاب الفصل الثاني لأخذ الحصص هناك
حملنا كتبنا وذهبنا إلى الفصل الثاني وجلسنا في مؤخرة الصف دون كراسي
شعرنا حينها أننا مشردون
الأولاد الذين يجلسون على الكراسي لا يكفون عن الالتفات لنا كأن وجودنا يضايقهم
بعضهم كان يصعر خده لنا بكبر
مدرسهم كان عصبي الملامح بعينين خضراوين وعنق احمر
حين دخل وقف جميع الطلاب ونحن جالسون في الخلف لا ندري ما نفعل حتى أشار لنا طالب في الخلف أن نقف أيضاً
حتى قال المدرس: جلوس
بعد أن جلس الطلاب نظر لنا نظرة خاطفة ثم بدأ بإعطاء الدرس
كان درساً متقدماً بالنسبة لنا حيث فاتنا يومين دراسيين دون اخذ دروس لذا كنا مشوشين
طلب في البداية أن يرى واجب الأمس وطلب ممن لم يحضر الواجب أن يقف
وقف بضعة طلاب ضربهم جميعاً بالعصا وبيديه وهو ينهرهم ويوبخهم
التفت لزملاء فصلي فرأيتهم خائفين مندهشين من أسلوبه الفض وقسوته في الضرب
كان يطلب من أحد الطلاب القراءة ويمر بينهم ليرى من لا يتبع بأصبعه مع من يقرأ
ومن يكتشف أنه لا يتبع كان يضربه بقوة على مؤخرة رأسه
أدهشني ما يفعل فلم أتعود أن أرى مدرساً يفعل هذا مع طلابه
أو بالأحرى لم يفعلها الأستاذ حمد معنا سابقاً
طلب من احد زملاء فصلي أن يقرأ الدرس فبدأ يقرأ
كان يتهجى الدرس لأنه لم يمر علينا سابقاً فكان كلما أخطأ في كلمه التفت عليه ذاك المدرس وصحح له الكلمة والشرر في عينه
"يابهيم بتعرفش تقرا متل الأوادم"
تشجع أحد طلاب صفي ووضح له أننا لم يسبق لنا أخذ هذا الدرس
"هاذي مشكلتكو أنتو"
" بدكم تلّحقو زمايلكو وتعوضو الدروس اللي فاتتكم"
" الدروس اللي راحت منَي فاضي اعيدلكم اياها"
ثم أكمل الدرس مع طلابه
وتبادلنا نحن النظرات وكأننا نتساءل جميعنا "أين الأستاذ حمد؟"
لم تمض دقائق حتى فتح الباب وطل منه الأستاذ حمد
لم نصدق كلنا
ركضنا جميعنا إليه كالسيل نعانقه
كان يبتسم بحزن عرفنا فيما بعد أن والده كان قد توفي
قال لنا أن نجمع كتبنا ونلحقه للصف
جمعنا كتبنا على عجل وألقيت نظرة على طلاب ذلك الصف
شعرت أنهم يتساءلون عن سبب حبنا لذلك المدرس
صعرت لهم خدي وأنا احمل كتبي
أما مدرسهم هم فقد كان واقفاً ينتظر انتهاء فوضى خروجنا من صفه البائس